الغلاف بريشة الفنانة شون لين يو
***
مقتطفات من رواية صادرة سنة ١٩٨٤ (ط.١) عن الدار العربية للكتاب (تونس)
المقهى
لا أدري ، ولكنه كان يدفعنا إلى هــذا الاعتقاد ، وكان لا ينقطع عن ترديد نفس الكلمات بينما تــدور عيناه الضيقتان الخبيثتان ألف دورة في الثانية ، ويقــول : ” ها !وجدتها ! ويجرع جرعتين من قدح البيرة ، ثم يحك أرنبة أنفه الشبيهة برأس موزة وينبري يقلّم أظافره ، فتقول له الآنسة ثريا : ” كفّ عن أحاديثك التافهة ، أو قم من هذا المكان.” فيلتفت إليها وتدور عيناه مرة أخــرى ويجرع جرعتين أو ثلاثة من قدح البيرة ويصيح : “ها ! حقا وجدتها هذه المــرة !” أما عن الموجودة ، فلا تسأل ! إنها أغلب الأحيان طريقته الخاصة في بدء حديث لا ينتهي تقطعه بين فينة وأخرى طرطقة لسانه . وغالبا ما نراه يقف مذهولا فجأة ، وكأن شيطانا مسه في مؤخرته ، ثم ها هو يركض في اتجاه مكان لا يعرفه أحد ، ليعود بعد أيام برزنامة كبيرة ، يورّقها ويوزع الأوراق على زبائن المقهى ، مع الابتسامة التي يؤمن إيمانا راسخا أنها ضرورية لتجلب إليه بضع ليرات ، يفرشها بعد ذلك أمامه على الطاولة ، ولا يغادر المقهى إلا حين يسلمها للقهواجي مقابل كأس بيرة ، فيما تدور عيناه دورتهما المألوفة لتحطا على امرأة ما ، ولا يهم من تكون المرأة ، فهو قد قرر أن ” يهديها ابتسامة وقصيدة شعر! ” هكــذا يقول ، ويضع أمام ” المحظوظة ” ورقة من رزنامته ، ويمضي إلى غيرها. وهكذا دواليك إلى أن يتم ” مهمته ” التي كلفه بها شيطان ما !
ذات يوم ، جاءت الطائرات الإسرائيلية لتقصف بيروت ، وانهارت العمارات والبيوت في حي الفاكهاني ، وفقد أباه وأمه وإخوته وأهله جميعا بين ليلة وضحاها. وفي الغد ، وجــدوه يهذي على الكورنيش. كان عاريا إلا من سروال ، وكانت بيده رزنامة يورقها ويوزع الأوراق على السابلة. هكذا بدأت قصة جنون الأستاذ ماهر الأسعد ، مدرس الجغرافيا في معهد ” الصنايع “.
قمـــــر تهالك فــوق وجهي منهــكـا
ليــــل المدائــن لا يفـــــوت
والطفلة الحمـــراء أشعلت الســـراج
وأسرجت لي مهرة البرق المغيب
هـــــذا شتـــاء آخـــر
يأتـي من الحجر العجيب
قالـــت الآنسة ثريــا : ” أنا لم أعد أحتمل وجوده بيننا. أكاد أجن “! ونهضت.
نظر إليها بعينين شجيتين. لقد التقط الذبذبة المشحونة بشتى الأحاسيس المتراوحة بين الحب والكراهية ، وفهم أن ثريا تشعر بشيء غامض نحوه ! فقرر أنه وجد أخيرا نصف روحه المفقود !
خرجت ثريا من المقهى ، فاندفع وراءها . كان المطر يزخ في الشارع. من خلال بلور المقهى ، رأيناه يهرول وراء سيارة ” السرفيس ” التي توقفت لحظة لتركبها ثريا وتغيب شهرا كاملا. وحين ينقضي الشهر ، تعود ثريا إلى المقهى لتخبرنا أنها تزوجت الأستاذ ماهر الأسعد الشاعر ، وأنها تعد الآن معرضا للرسم المائي ، وأنها تنوي السفر مع زوجها إلى آمستردام ، حيث ستقدم مائياتها للجمهور الهولندي ! ! !
أنا لم أقل شيئــا.
لكن أبا الكرم هز رأسه ، وقال : “هيـــه ! ولم لا تجلسين وتحدثيننا بالتفصيل ؟ متى تزوجت ؟ وكيف تزوجت ؟ وأين زوجك المحترم ؟ ولماذا لم تشرفينا بدعوة ؟ ألسنا أصدقاءك ؟ الناس لا يتزوجون كل يوم ! ما رأيك أنت يا أستاذ حلمـــي ؟ ”
رفع حلمــي عينيه عن الجريدة. حدق في الجالسين برهة. كان واضحا أنه يفكر في شيء آخر. ظلت هي واقفة تحملق فيه. كانت كأنها تنتظر شيئا ما غير محدد ، وكانت تنتظره من حلمي بالذات. لكنه خفض عينيه، وعاد يتطلع في أعمدة الجريدة ، وكأنه لم يسمع أو ير شيئا.
مــرت لحظات صمت. جلست ثريا. جاء القهواجي ، طلبت قهوة سادة. ذهب القهواجي ليحضرها. في الخارج ، كان المطر يزخ ، والسيارات تمر ببطء في صف طويل. دخل أربعة جنود على رؤوسهم القبعات الزرقاء ، جلسوا في ركن صامتين. وحول الطاولة المجاورة لطاولتهم ، كانت فتاتان سمراوان طويلتان تتحدثان بصوت خافت ، وتتطلعان بين فينة وأخرى في وجوه الجالسين. جاء القهواجي بالقهوة : ” كيف الحال آنسة ثريا ؟ من زمن لم نرك … ” ماشي الحال ! شكرا ! ” انصرف الرجل. قال أبو الكرم : ” هل سمعتم ؟ لقد فجروا جريدة المساء ! ” لم يجبه أحد.
من البلور كنت أشاهد السيارات تمر ببطء في صف طويل ، والمطريزخ دوما. مرت شاحنة تحمل جنودا، وتلتها شاحنة ثانية ، فثالثة ، فرابعة ، فخامسة … انفجرت ضحكة طويلة في المقهى. التفت. رأيت الفتاتين السمراوين تجلسان إلى طاولة ” القبعات الزرقاء “. نظر حلمي إلى الساعة. السابعة مساء. طوى جريدته ، ووضعها أمامه. نادى القهواجي. جاء القهواجي. ” جين تونيك لو سمحت “. راح القهواجي ليحضر الـ ” جين تونيك ” للأستاذ . تذكرت الفتاة التي أعطيتها موعدا في الساعة السابعة. لم تأت. لماذا لم تأت ؟ كانت عيناي تتطلعان في الباب البلوري. مطر على بيروت. السيارات طابور طويل … ببطء … تمر…
قال حلمي : ” يجب أن أذهب. ” لكنه لم يتحرك. ظل صامتا. تنحنح. أمسك الجريدة التي كانت مطوية على الطاولة ، قلبها بسرعة ثم أعادها إلى مكانها. قالت ثريـــا : ” سوف أعرض في آمستردام آخر لوحاتي … ” انفجرت ضحكة طويلة في المقهى. كان أحد ذوي القبعات الزرقاء ” يغازل إحدى الفتاتين. جاء القهواجي. وضع الــ ” جيـن تونيك ” على الطاولة. ” لم نر الأستاذ ماهر من زمان ” قال أبو الكرم ، محدقا في ثريا. ظلت صامتة. عيناي معلقتان بالباب ، السيارات ، المطر ، الجنود ، المظلات ، الناس ، الكراسي ، الساعة السابعة ودقيقتان وعشر ثوان. ” نسفوا جريدة المساء“. ” من فعل ذلك ؟ ” انفجرت ضحكة طويلة في المقهى. قال حلمي : ” يجب أن أذهب. ” لكنه لم يتحرك. كان يمتص الشراب ويدخن متفرسا في الوجوه. فيم يمكن أن يفكر ؟ رجل غريب ! قلت في نفسي. دخلت الفتاة التي أعطيتها موعدا. رأتني . جاءت. وقفت لاستقبالها. ” أهلا ! ” ” أهلين ! ” جلسنا. ” الأستاذ حاتم أبو الكرم ، شاعرنا الكبير. الآنسة ثريا ، رسامة غنية عن التعريف. الأستاذ حلمي ، صحفي و … طبعا !خادمك ، يوسف عبد الوهاب. ” قلت ذلك بسرعة ، كمن يردد محفوظات. ” أقدم لكم الآنسة أحلام … ” لم أكن أعرف عنها شيئا أكثر من ذلك. التقيتها في الظهيرة على الكورنيش. كانت واقفة تنظر إلى البحر. قلت لها : ” البحر جميل في الخريف ! ” قالت : ” نعم جميل. ” “اسمي يوسف عبد الوهاب … صحفي ، وأنت ؟ ” جاء القهواجي. ” ويسكي للآنسة أحلام. ” راح القهواجي. قال الأستاذ حلمي : ” يجب أن أذهب. ” لكنه لم يتحرك. غريب هذا الرجل ! إنه غير طبيعي إطلاقا. لا شك أنه ينطوي على سر مــا. لكنه لا يتكلم أبدا. صامت دوما وبارد كالحجر. لم يكن هكــذا في البداية. السيارات تمر ببطء. ” نسفوا جريدة المساء. من يدري على من الدور في المرة الآتية ! ” انفجرت ضحكة أخرى في المقهى. فجأة ، يدخل ماهر ملتفا في معطف رمادي ، يأتي إلى طاولتنا ، يجلس. ” أين كنت ؟ ” قال أبو الكرم. ” أعمل الآن في وكالة أنباء” … ” مبروك ! ” أخرج من جيبه رزنامته : ” سوف أسمعكم آخر قصيدة … ”
أيها العصفــور الوحيــد
يا سيــد الشجرة الشرقية
امنحنــي لسانــك
لأقول ألمي بفرح
امنحني لسانك الحكيم سيدي
لأفـــرح
لأفــرح
في ألمـي
***
شـارع المـوت السريـع
لم تكــن لديه رغبة في العمل. ومع ذلك فقد كان ضروريا إعداد هــذا الملف. أحس بضيق في صدره ، فنهض واتجه إلى النافذة. فتحها ، وظل واقفا برهة ينظر إلى الشارع.
إنها امرأة عـــذبة وذكية. امرأة كما يشتهيها كل رجل. ومع ذلك ، فهو لا يحبها كما يحب أي رجل امرأة. لا يزال ذلك الحب القديم يعذبه. هل يمكن أن يرى “الأخرى” في كل امــرأة يلتقيها؟ هل يعيش حياته بهذه الطريقة ، حيث لا يرى الوجه الذي أمامه إلا من خلال وجه آخــر ؟ ذلك الوجه الذي مضى ، هل يعود ؟ ها هو يعود في وجه ريتا. مسكينة ريتــــا ! لو تدري أنه حين يعانقها إنما يعانق امرأة ميتة ! ما هذا الحب الفائح بالموت ؟ ما هذا بحب ! إنه جنون ! مـرض ! عــذاب لا آخــر له ، كعذاب هذه المدينة المحترقة.
هي ترسم ، وهو صامت. فاتح عينيه على السقف العاري ، وصامت … كميت. طويلة وممشوقة ، ذات شعر كستنائي منسدل على كتفيها. فستانها … ما لون فستانها ؟ هل يتذكر لونه ؟ يعرف أنه فستان جديد. يعرف أنهما سيذهبان للعشاء في مطعم صغير على الروشة. بعد ذلك …
” بعد ذلك سنـــرى “، قال.
ابتسمت. قبلته وابتسمت. ثم ابتعدت ، وعادت إلى لوحتها.
– والأخبار ؟
– أية أخبار ؟
– لا جديد ؟ إنهم يتقدمون !
– من هـــم ؟
– الاسرائيليون … في الجنوب.
– إنهم دائما يتقدمــون. ومتى كانوا يتقهقرون ؟
صمـــت.
– لم أر يوسف من زمن . لعله في رحلة. في المقهى لا جديد ، سوى أنه يوما بعد يوم يتحول إلى مستشفى مجانين. يا إلهي ! هل سنجــن جميعــا ؟ هل هذه نهايتنا ؟
– في الجريدة ، هذا الصباح في الجريدة … هذا الصباح ، لغّموها. انتبه أبو عباس إلى ذلك. لولاه … لولاه لغدونا جميعا في عداد الموتى … شهداء ، نحن أيضا. شهداء … ماذا فعلنا ؟ كلا . أنا لست غبيا. جميعنا مسؤولون عما يحدث ، ولا أحد بريء. طالما لم يتغير شيء هنا ، في هذا العقل ، لن يتغير شيء في عالمنا. القضية في العقل. نعم. القضية كلها في العقل. عقلنا مصاب بلوثة. وهو الآن يعاني من نزيف داخلي. هذا الانتحار البطيء. هذا السقم الباطني. هذا السرطان الذي يفترسنا. شيطان يحملنا جميعا ! ليس فينا واحد يستحق الحياة. نحن جديرون بمشنقتنا. جديرون بجلادينا. نحن وإياهم سواسية. هم يعرفوننا ونحن نعرفهم. منذ زمن كان هذا. منذ زمن بعيد. نحن متواطئون مع الجلادين. صمتنا ، خضوعنا ، رضانا ، طاعتنا ، تواطؤ. نحن متواطئون مع جلادينا على موتنا. هذا هو الداء الذي ينخرنا. هذا هو الداء الذي لا فكاك منه ولا خلاص.
– ليتني كنت يائسة. اليائس انتهى من الدنيا بأسرها. طواها كما تطوى جريدة قديمة ووضعها في زاوية مظلمة ، ثم انزوى ينتظر موته. وربما سار إليه عن طيب خاطر. كلا . أنا لست يائسة. أنا متعبة فقط. أشعر بتعب شديد. تعب لا حد له. لم أعد أفكر. لم أعد بحاجة للتفكير. لماذا التفكير؟ ماذا يجدي التفكير ؟ إلى أين قادني التفكير ؟ إلى أين أين يمكن أن يقودني ؟ جحيم آخر هو التفكير، جحيم أسوأ من كل جحيم. انتهى كل شيء. ها أنا أرسم. ماذا أرسم ؟ كنيسة أم جامع هذا ؟ مدينة أم ماخور ؟ عالم أم مقبرة ؟ لا أعرف.لم أعد أعرف. لست بحاجة إلى أن أعرف. لِمَ أعرف ؟ أرفض. إني أرفض أن أعرف. ها أنا أصمت. الصمت والبلاهة. سيدتي البلاهة ! هل ترضين بي خادمة ؟ أنا عبدتك ، جاريتك. إلهتي البلاهة ! هذا زمنك.
” أنا مخطىء في حقها. لست أستحقها. لست أستحق حبها. أنا نذل ، كاذب ، معتوه. أحب ميتة. كلا . أنا لا أحب حتى الميتة ، بل أحب موتي. نعم. هذا كل شيء. موتي يسحرني. حين أغمض عيني أراه قريبا. أبيض ، أشيب الشعر ، كأنه لص. إنه يجلس على حافة النافذة ويخاطبني. ساعات وساعات نتحادث كصديقين حميمين. موتي ! ها أنا أنظر إليه ، أراه ، إنه هنا. هه ! ألست هنا ؟ تعال ! ألست؟ …”
– الموت. الخلاص. عالم النسيان. التحول. خدر عميق. رحلة ألى بلاد السحر. وهم يتقدمون. دائما يتقدمون ، يتقدمون ، يتقدمون. لا سبيل إلى الخلاص. لا سبيل إلى السحر. لا سبيل حتى إلى الجنون. سوف يأتون.
أغلقَ النافذة. إنها لن تأتي هــذه الليلة أيضا.
……..
الثامنة والنصف من يوم الإربعاء
لماذا هذه المذكرات ؟ وما أهمية الكلام والكتابة حين تكون الروح البشرية أرخص من روح كلب سائب؟ انتهت الطلقات ، انتهت الكلمات ، وخيم جــو ثقيل على المدينة. أتساءل أحيانا : أين تقع هذه المدينة؟ هل هي حقيقية ؟ بل هل أنا حقيقي ؟ لا شيء فيها يشبه المدن الأخرى. آه ! ها أسمع لحنا. الجيران مازالوا قادرين على سماع فريد الأطرش ! ” عش أنت !” إنهم محظوظون. أنا لم أعد قادرا حتى على سماع صوتي. يسمّمني صمت حارق. صمت غبي. يسمّمني إلى حدود الانفجار. أتوقف عند هذه الكلمة. أتساءل : ترى ماذا كان يعني لي الانفجار في السابق ؟ أشياء كثيرة: موت ، عنف ، دمار ، أيد طائرة ، رؤوس ، صحون ، ملابس ، ملاعق ، أحذية ، أثاث في السماء …
وحين كنت قادما إلى البيت مع يوسف منذ أسبوع قلت له :
– أتعرف؟ إنني أحيانا أضحك ، ثم أتمالك نفسي وأقول : أوقف هذا الضحك الغبي. إنه غير طبيعي.
قــــال :
– سبب ذلك ترسبات في لا وعينــا. أذكر أن أمي كانت تقول إذا صادف أن ضحكت ضحكة طويلة : ” خير ! إن شاء الله ! ”
– صحيح ! هذا ما أذكر أن أمي تقوله أيضا.
– إنهن لفرط ما عانينه ، ولشدة ما بكين في حياتهن صرن يتطيرن حتى من اللحظات السعيدة والقليلة التي يعرفنها.
وصمــت صاحبي.
والآن أدركت شيئا لم أكن قد فكرت فيه من قبل ، ولا تصورته.(أتابع الكتابة بجهد. يتنازعني الصمت والانفجار. ومع ذلك أعرف أنني سأموت بارتفاع الضغط إن لم أتحدث ولو لهذه الورقة …) هربت الفكرة. يجب البحث عنها من جديد. ماذا قلت ؟ ماذا أقول ؟ ماذا سأقول ؟
……..
التاسعة والربع. الزمان والمكان إياهما. طلقة صغيرة أعادتني إلى حيث لم أكن ، ( أي إلى شقتي). يكفي أن أنهض من خلف هذه الطاولة ، يكفي أن أخطو بضع خطوات حتى المطبخ وأفتح الثلاجة ، وأسحب منها علبة بيرة ، أفتحها، أشرب ، الحرارة لا تطاق ، الجو ثقيل ، لماذا لا أفتح الراديو ؟ كلا . أو لنضع كاسيت. كلا، ماذا إذن ؟ طق !عد إلى مكانك. اجلس واكتب.
وأجلس ، وأكتب. ولولا هــذا ، أعرف أنني لا محالة سالك الدرب إلى ” العصفورية “. ولكن لا … أعرف مع ذلك … أعرف جيدا أنه يجب أن أتمسك بعقلي ووعيي وأتشبث بهما مثلما يتشبث غريق بخشبة النجاة الوحيدة …
الله ! نحن الآن جالسون في صالون العقل ! وهي الساعة التاسعة وخمس وعشرين دقيقة من ال… طق ! دم ! دمم ! دددددم !
أجلس على الأرض. أنهض. أدور ككلب لاهث وراء عظم خيالي ، جوعان ، سائل الريق. انفجار. انفجاران. تشايكوفسكي. شمعة مطفأة. نظارات. ألتقط كل ما يسقط تحت بصري ، وأطرح على الورقة، أجسادا ميتة. آخر ما رأيت ، آخر ما سمعت ، آخر ما … دم ! دم دم!دددم!…
عـــاد الصمت من جـ … ليتني ما قلتها ! أتنفس ؟ بلى. لا أزال حيا. انفجار ، اثنان. صمت. إيقاع غريب! الموت غريب ! والحياة غريبة ! وغريبة هذه الموسيقى ! غريبة هذه السماء !غريب هذا الليل! هذا الـ … كلا. لا شيء غريب. كلا. هدوءا ! لنعد حيث كنا. المدينة هي المدينة دوما ، والناس هم الناس. بسطاء وفقراء ، وأغنياء ، وسذج ، وأذكياء ـ وعباقرة بالقوة ، وأنبياء وهميون ، وقطاع طرق ، وفراعنة ، ومنكوبون ، وموتى ، ومعذبون ، و آآآآآآآآآآآآ ه ه ه ه ه ! وجوعى ، وشرد …………. دم دم دددم!
……………………………………………………………………………………
تمام الساعة العاشرة. بدأت الأفكار تتضح. لا أدري لم فكرت اللحظة في حي بن يقظان … لا بد من…دم دم دددم دم دم دم!
……………………………………………………………………………………
العاشرة وإحدى عشرة دقيقة وأربع عشرة ثانية وأنا مغتاظ والضوء مشتعـــل والجيران صمتوا والفوطة تتدلى على الشريط في البلكون والسماء بلا غيوم أو نجوم ، ولا أريد أن أفتح الراديو ، وأرغب في تدخين سيارة ويمنعني الكسل أو شيء آخر غامض عن إبعاد يدي ولو للحظة واحدة عن هذه الحروف التي أنقرها ، ولماذا ، ولا أعرف ومع ذلــك …
طبعا أبعدتها ! وقربتها من علبة السجائر. نهضت من مكاني. وذرعت المسافة بيـــن البلكون وغرفة الحمام ، ودخنت ( وربما نسيت أن أدخن ) ولا علينا ، وعدت إلى مكاني وجلست وكتبت وأكتب و… لم يحدث انفجار آخر !
أسمع من حين إلى آخر صوت محرك سيارة في الشارع. وعلى ذكر الشوارع … لاحظت بعد فترة من سكناي في هذه المنطقة أن أحد ” الظرفاء ” – وهم يقلّون في أيام الحرب – خطّ على جدار الشارع الذي يقع قبالة عمارتي – بخط كوفي على ما أظن – وبحروف كبيرة ساطعة – وبالأسود ( وهو ما يسمى حقا بالدعابة السوداء ) الكلمات التالية :
شارع الموت السريع
………………………………………
صباح الخميس 23 ، نفس الشهر. السنة الغريبة نفسها. المدينة العجيبة نفسها … لم أستيقظ على صوت الرصاص. وهذا بأية حال أمر تافه. لم يكن كذلك طبعا. ولكنه أصبح ، بمرور الزمن.
بالأمس ، وعلى غير عادتــي لم أسدل على النافذة الستار. وحين أطفأت الضوء ، ظللت أحدق في السماء طويلا ، باحثا فيها عن نجمة واحدة … لم تكن موجودة. وأخذني النعــاس.