أدبرواية

نون

الغلاف بريشة الفنانة شون لين يو

***

مقتطف من رواية ن الصادرة سنة ١٩٨٢(ط١)  عن ديميتير (تونس)

مهداة إلى أخي فيصل  الذي كان حاضرا في تلك الأيام… إلى روحه الطاهرة وعبقريته المتألقة أبدا.

نيكروبوليس

 

«الله نار في الرأس» -نيجنسكي.
         – من أنت؟
         – أنا ريم.
         – ومن ريم؟
         – مريم العذراء! وأنت؟
         – أنا وليد الأرض.
         – ومن وليد الأرض؟
         – جبرائيل!
         ضحكت. كانت في السابعة عشرة من عمرها أجمل امرأة رأيتها في المدينة. طالبة في قسم الفلسفة. لم أرها يوما تحمل كتابا. كانت مثلي… تقرأ في ما حولها السرّ وتتعرف على اللا مسمّى…
         قالت:
         – أحلم بعالم آخر أشعر فيه بأحاسيس لم يعرفها إنسان قبلي…
         قلت:
         – هل تعرفين عالم الموتى؟
         لا، قالت… لا أعرفه.
         – إذن، اتبعيني إليه. أسرعي قبل أن يطلع الصبح.
         ومضينا إلى المقبرة… هذا العالم الطبيعي الذي تحويه حياتنا الغريبة. قفزنا من فوق السياج الحجري المتهدم. كنا وسط المدينة. وسط عالم الأحياء. ومع ذلك، فلقد كان قلب «ن» ينبض في المقبرة.  كان في تلك الليلة يدق كطبول البدائيين في الغابات البعيدة ويحدث وجيفا وقرقعة جحيميين.
         كانت الليلة دامسة الظلمة، والريح تخيط شقوق القبور وتصفّر بين أغصان الكلبتوس. وكنا نسير بين الأضرحة البيضاء حيث الزنابق الوحشية تعانق الأتربة وتشرئب إلى السماء. وكنا نسمــــــــع النحيب الممزق والرعود المتقصفة. وكنا نسير متعانقين بين الأضرحة البيضاء والمطر ينهمر بطيئا، غزيرا، شادا بين السماء والأرض بخيوط فضية. كل شيء كان يبدو في تحول غير منقطع. هذا التجانس السديمي العظيم. إنها حقيقة مرعبة بروعتها. لحظتها، أحسسنا أننا ذرتان من ذرات التداعي الكوني… قطرتان ذائبتان في مياه النهر اللامحدود…
         وأتاني صوتها مرتعشا:
         – إنني خائفة…
         – إذن، اتركيني وعودي من حيث جئت…
         – لا، لا. أبدا… أريد أن أبقى معك…
         – انزعي عني ثيابي.
         وبدأت أنضو عنها ثوبها.
         وفي الظلام، وقفنا عاريين بين القبور تضيئنا بروق السماء. واشتدت الريح. واشتد المطر. وسمعنا انتحابا حزينا طالعا من أعماق الأديم. كأن قوى الطبيعة تتحد فجأة لتنصب علينا… مباركة عرسنا.
         لم نكن نعكس إرادة الكون العظيمة. كنا واثقين من أنها إرادتنا. هل كانت ريم تعرف ذلك؟ لا أدري… لكنها لم تتردد.
         كنت أريد الاتحاد بها. الاتحاد بالأرض البكر. الاتحاد بالأرض الخصبة المطهرة من كل دنس. الاتحاد بهذه العذراء. تحطيم الحدود الموضوعة فيها. تحطيم الصنم المتصلب في جسدها. هذا الجسد الذي لم يعرف عنف الدم. هذا الدم الفائض من مساماتي، من عروقي، من شراييني، من قلبي، من أعصابي، من خلاياي. هذا الدم الأسود الذي يدور في جسمي منذ ولدت.
         آه يا سنوت! آه أيتها الأم! أيتها العين المفتوحة في جبيني! أيتها العين المفتوحة على المهوى! آه يا فجري ويا مغيبي! إني أعرف أنك هنا. أعرف أنك المدينة والمقبرة. أعرف أنك الحياة والممات.  أعرف أنك المصير الذي سطر بقلم السماء على جبيني. ولكن الأمطار لا تكف. أي فيض هذا! أية غزارة! أي إسراف! هل هو إلا استمرار الفضيحة… فضيحة آدم وحواء!
         إنها التفاحة التي ستعيدنا إلى الموت يا سنوت. وأنا الحيّة التي ستشطرها شطرين. اقتربي… اقتربي أيتها العذراء. سأخلع كل البوابات. سأحطم جميع الأسوار… سأهتك الحواجز والجدران والحصون. سأصلك… عاريا من نفسي. سأصلك عاريا إلا منك. اقتربي… البسيني. كوني الغطاء الذي يصلني بالسماء. كوني الأرض التي سترتديني. اقتربي…
         قالت:
         – خذني إلى عالم الأموات يا جبرائيل. أرنه. إني متقدة. متأججة. ناضحة بالسموم. أريد طهارة الدم. أريد الله… أرني الله يا جبرائيل…
         هذه الحشائش تتحرك… تتنفس… تحيا… والمطر يتوقف فجأة عن النزول. حتى الريح انقطعت… كأنما ارتدت بعيدة إلى كواكب أخرى…
         عانقتها جميلة، ساحرة، بين القبور. قبلتها في كامل جسدها الذي انفتحت مهاويه السحيقة كنيلوفر الليل.
         قالت:
         – ادخلني يا جبرائيل واتحد بي، إذ… أنا النبع. أنا الغاية والنهاية.
         ودخلتها.
         واهتز جسدانا المتلاصقان وسط ظلام الموتى في تناغم سحري مع تحركات الأعشاب… ومرور السحب… وتنفس الكائنات… واشتعلت فينا نيران الأزل…
         وفي البعيد، سمعت أمواج البحر راكضة على الساحل الألماسي متراجعة مع الجزر إلى جزر نائية.
         ومرت لحظات من السكون الكوكبي، أحسسنا فيها الحياة تموت لتنبعث من جديد…
         كان الفجر.
         وكان يولد النهار من الليل…
***
         وجدوها ملقاة فوق التراب… عارية، بين حشائش الجبّانة… والمطر يغسل جسدها البارد.
         كانت قطرات دم متجمدة أسفل بطنها… وكانت بين فخذيها تضمّخ الشعر الأسود الناعم… حنّاء… وتختلط بالوحل.
***
         ووجدت نفسي أسير بخطى سريعة ثابتة في ظلمة الشوارع والريح تصفع وجهي والبروق تشطر السماء تفتّتها وتعيد تركيبها والرعد يفلق صمت الليل بوجيف زلزالي وتنشقّ الأرض عن نيران جحيمية يسكن لهيبها الجنّ معربدين مصطخبين في المقاصير المضاءة بالشموع والمصابيح مع جنيات عاريات يتلظين شهوة ويفتّقن أجسادهن فاتحات مصاريعها لشبق الحيوانات ذات الأعين المتوهجة بشرار الليل فيما تعبر اللهب الجهنمي جياد سود وحمر وبيـــض راكضة بسنابك حديدية فوق زرابي شامية وقيروانية وفارسية وسجاجيد حجازية منمّقة ومطرّزة بالذهب والعطر يقطر منها والبخور يتضوع منتشرا في الجو المثقل بأدخنة سحرية وعلى صهوات الأحصنة فرسان أشداء ملفعون بأقنعة من البرنز يمسكون بسياط مرصعة المقابض بالماس والياقوت وإذ يصلون الجنيات يختطفونهن في لمح البصر ويطيرون مع الريح إلى قصور خربة مهجورة منذ آلاف السنين حيث يضاجعونهن تحت ظلال السنديان والسرو على أسرّة من الريش والزئبق وحين تطلع الشمس يذوبون ويتبخرون في أشعتها كجليد البحيرات وأنا أسير بخطى سريعة ثابتة في ظلمة الشوارع والريح تلبسني والأمطار تعريني والرعود تقصفني والبروق تكسرني والنيران تؤويني والليل مرايا ومرايا ومرايا والعقل تائه وأنت ميتة يا ريم ميتة يا سنوت ميتة يا طفلة ميتة يا أم يا طفلة يا أم ومن يقدر الآن أن يجمع شتاتي من يقدر الآن أن يخيط لحمي الممزق من يقدر الآن أن يوحدني من يقدر الآن أن يجسدني وأنا أسير في ظلمة الشوارع والمصابيح مطفأة والنجوم عمياء والقمر مطعــــون والخنجر ضائع والجريمة مفضوحة والمجرم لا يوجد.
         وفي الصباح كنت أتناول فطوري كالعادة في البلكون. وكانت زوجتي معي. كانت تطالع صحيفة الصباح. وفجأة، صرخت وشحب وجهها وسقطت الجريدة من يديها. رفعت رأسي مندهشا…
         – ماذا بك؟
         قالت بتقزز لا حدّ له:
         – اقرأ… الجريدة…
         ونهضت لتدخل الغرفة، ولم تكن أكلت شيئا بعد.
         وبفضول شديد، أمسكت الجريدة التي وقعت على الأرض، وإذا بهذا العنوان يتصدّر الصفحة الأولى:

 

مصّاص دماء يهوم في المدينة

 
علمنا قبل دخول الجريدة إلى المطبعة بقليل أن جثة الفتاة التي وجدت منذ أسبوع عارية في المقبرة بعد أن وقع اغتصابها أخرجت من قبرها وانتهكت من طرف نيكروفيلي مجهول. لكن الأغرب من ذلك ظهور آثار خدش وعضّ عميقة على جسد الميتة. ما زالت البحوث جارية لمعرفة مسبب الجريمة. ولكم مزيد من التفاصيل في عدد الغد.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى