اللوحة للفنانة شون لين يو
قصائد
******
في أول الزمن
في أوّل ما غرّد شعاع
في أوّل ما رفرف جناح
في أول ما سار رجل على الأرض
في أول ما كان شيء يسمّى الحب
في أول ما كان شيء يسمّى الزمن
كنّا قد ولدنا أنا وهي
قبل مولدنا بآلاف القرون
ومشينا على الأرض
****
إنني الآن أكتشف يدي…
قلبي
إنني الآن أكتشف هذا الصّمت الذي كنت أحاور كلّما كان اللّيل… كلّما كان النّبض ميّتا دونها… كلّما كانت الكلمات معزولة وهي تخرج من جسمي وتتدفّق… موجة بعد موجة…
***
إن الشمس بطيئة هذا النهار. وأنا أخرج من يدي مكشوفا كالضّوء… كاشفا كالشّعاع.
***
مثل رجع بعيد
يعود الكلام – الحنين
ويأخذني المطر الأول
للعيون التي قتلتني
وهذا الصّباح
على حافة النافذة
ويداي تعيدان رسم طفولتها
وسناء ابتسامتها
كيف أبدأ؟
كيف أخفي النشيج الذي يملأ القلب؟
كيف أذوب؟ أموت؟
وكيف أعيد لجسمي
مذاق الحياة التي فارقته
منذ مات الحنين
الكلام
العيون
الصباح
المساء
الصباح؟
****
فكّرت أن أكتب وأذوب
فكّرت أن أكتب ما لا يكتب
فكّرت أن أكتب ما لا يمحى
فكّرت أن أنسى
فكّرت أن أتذكّر
أن أتشبّث بالفكرة
لكنّي ضيّعتها في منعطف اللاّ
ماذا كنت سأقول؟
لن أعرف ذلك أبدا
لن أعرف
لكنّي لا آسف إلاّ…
أترين؟
هأنذا مرّة أخرى
حين أكون على وشك القول
أموت
والآن
من أين أبدأ؟
***
أتذكّر
ذات خريف
كنت أمشي
وبيروت كانت تفيق من الموت
تدخل في طقسها
والخريف مرايا
عناقيد مقطوفة من بساتين عشاقها
وأنا
كنت أمشي
وكنت أقول:
خريف
وبيروت تنهض من موتها
وترمّم أشلاءها
ومرايا الأناشيد والناس
والنار تدخل في طقسها
وتعرّي الجنون
***
أتذكّر
ذات يوم… ذات حلم آخر… ذات خريف آخر
ذات مدينة
كنت في حجرتها العرّافة قالت:
ذات رحلة…
ـ ماذا تعنين؟
( لم أك أفهم الشفرة … كنت ـ هل ما زلت؟ ـ كنت لا أزال يومها طفلا بعينين ذاهلتين )
قالت العرّافة الغجريّة: ـ اسأل قلبك تعرف…
ولم أعرف
أنّني للصمت منذور
وللحزن الذي ينمو زهورا قانية
فوق الرصيف
ـ هذا دمي؟ قلت…
وكان الطفل والعائلة المقتولة الحرب المباني
والعمارات الحطام الشارع المقفر والحزن الذي
ينمو زهورا ورمادا
هل دمي كان الذي أهرق في الشارع المفروش بالجثث؟
وهل كنت وحيدا أم ترى كانت معي
في نار ذاك المغرب؟
****
في الفجر أمشي صامتا
في الشارع الممحوق في رئتيّ
في الظّهر أدخّن صامتا
في اللّيل لا أبكي ولا أشكي
أذوب صامتا
في معدني الوحشيّ
أمشي
دائسا قلبي
وأخطو بين أكوام الجثث
عاما من الصمت الحزين
***
شمس متناثرة إربا
سيّارات برؤوس جياد
نافذة ـ شمعة
مرآة منذورة
لنبيّ مجهول ـ ربّما
يأتي اللّيلة… ربّما
لا يأتي أبدا…
****
أصوات الخطوات المقتربة
أصوات الأصوات المشتعلة
صفّارات لعصافير الرّيح
خطوات الأصوات
أصوات تغمر أحشاء اللّيل البيروتيّ المتقدّم فوق الأجساد
ال
متــ
ســا
ق
طة
جس
دا
جــ
ســ
دا
لن يأتي الله
لن يأتي أحد
لن يطرق هذا الباب المفتوح على البحر إلاّ
نبيّ الموج المجنون
***
هأنت ذي تقتربين من مدني وتمتدّين شاسعة على الساحل
هأنت ذي تنأين عن زمني وتجترحين للصخر طريقا في مسام النار
والآن تأخذني مسافات من النجم إلى النجم
والآن يأخذني اللّهيب الدّافئ
وأنام محتضنا رمادي
***
قلبي ساكن في الريح
هذا المساء شارع أرخى سدوله فوق جسمي
لا
إنني لست شريدا
إنني وطن لنفسي
ولم؟
وكيف أقول لك : أحبّك؟
كلاّ
لا
أريد…
***
هذا مساء آخر
يرخي سدوله فوق الشارع المرهق
إني متعب
لا وقت عندي للقاء عابر
لا وقت إلاّ
للسفر…
تلك البلاد غيّرتني …
***
كأن التراب الذي لم أعانق
كأن المدائن والأرصفه
كأن الغمائم والأنهر والشوارع والناس واللحظات التي لم أقل
تطالبني بالحياة
كأنّني لم أنته من غبار الطريق
كأن السراب الذي لا يزال يعلقني بالبدايات
لا ينتهي
***
كدت أمضي
وكدت أقول المدائن تبكي
وكدت أفكر أنّي وحيد وأنّي شريد
إلى آخر الغربة الغجريّة
لكنّ عينيك
لكنّ سرّ الحروف
لكنّ شعرك
لكنّ شيئا غريبا
لكنّ أغرب من كل شيء
وشيء…
أحاول أن أجد للحروف معاني غير المعاني
أحاول تحديد سرّ الحياة
ولكن
ولكن
ولكن…
***
قالت العرّافة الغجريّة:
- الصمت الذي كان الذي مازال ينمو
قلت:
- لا أعرف من كانت
لعلّي واهم
أو لعلّ…
قلت:
- في العشب أرى روحي
وقالت:
- وترى جسمك في الماء…
وقلت:
- لست أدري
أو لعلّ… بل أرى
كنت …
ثم صرت
كيف لا كنت ولا صرت ولا بحت؟
( آه ! ماذا عساني أقول لها وكيف من جسمي أبني لعينيها مملكة لا تطالها العيون؟ آه ! كيف أحدّثها عن ألمي الذي عبر قرونا من الفوضى دون أن أبدو ـ أنا الذي عشق بلا انتهاء ـ منتهيا من عصر سرابيّ إلى عصر بلا طفولة؟ )
***
الرجل الذي يستيقظ هذا الصباح في هذه الحجرة المعلّقة، بين صمت السحب الخريفيّة ولهيب أصابعه المنقبضة على القلم…
الرجل الذي يضيع هذا الصباح
مثلما
يضيع كلما طرق بابك ولم تفتحي…
أو الرجل الذي يتحول رأسه شيئا فشيئا إلى بئر فارغة تملأها الأشباح…
أو الرجل المتحول إلى سؤال مترام بين الصخور والكهوف والوديان والجدران…
الرجل المرتدّ إلى دماغه
فاتحا إياه
كما تفتح الجريدة…
يقرأ الآن اسمك
ويتمتم:
باسمك
باسم الريح
باسم الكلمات المحروقة في قلبي
باسم الأشياء الـ ــلاّ معـــ ــروفة
أسمّيك … كل البـلاد
أسمّيك … كل الصباحات
كل المساءات
كل العباد
أسمّيك هذا الذي لم يكن قبل عينيك
إلاّ رمــاد
خـلاصـة روحي
ورعشة نبضي
مرايا المدى المتمرئية في مساء التحول حين الغمائم تشحب في مقلتيّ وأمضي كما الماء فيما تحاصرني الكلمات
وأمضي
وحيدا
وحيدا
لعينيك أمضي…
***
الآن أسقط أقنعتي
أدخل في طقوس الأرض والماء
جديدا هادئا
حرّا طليقا
والآن أعيد للشمس غلّتها
وأعلّق فوق وجنتها
جمرة قلبي…
الآن أقول للرياح: تفجّري
للأشجار: تسامقي
للمياه: سيلي
هذه أيّامي
تمضي إلى الفرح الآتي
وهذه طريقي
واضحة ومضاءة…
بيروت 1979-1980