د. هشام القروي
تقدير موقف
يؤكد دونالد ترامب أن الضربة التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية قد حققت أهدافها، في حين يصر المرشد الأعلى الإيراني على أن الأمريكيين والإسرائيليين فشلوا في تحقيق أهدافهم من ضرب المنشآت النووية، وأن إيران لن تستسلم أو تتخلى عن حقها في استخدام الطاقة النووية.
وفي الولايات المتحدة نفسها، تشير تقارير إعلامية تستند إلى معلومات مسربة من البنتاغون إلى أن الضربة الأمريكية فشلت في تحقيق أهدافها وأن إيران لا تزال تحتفظ بقدراتها في تخصيب اليورانيوم.
فماذا حدث بالضبط؟ من يجب أن نصدق؟ وما هي المعلومات التي لا يريدون أن يعرفها الناس؟
*****
أثارت الضربات العسكرية الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو 2025 معركة غير مسبوقة حول الرواية، مع ظهور تقييمات متضاربة بشكل كبير من أعلى مستويات الحكومة ووكالات الاستخبارات والمراقبين الدوليين.
يكشف هذا الجدل عن توترات عميقة داخل مجتمع الاستخبارات الأمريكية، وتسييس التقييمات السرية، وأسئلة جوهرية أخرى حول ما حدث بالفعل خلال عملية ”مطرقة منتصف الليل“.
ما حدث بالفعل: حرب الـــ 12 يوماً والتدخل الأمريكي
بدأ الصراع في 13 يونيو 2025، عندما شنت إسرائيل هجمات مفاجئة على منشآت نووية وعسكرية إيرانية.
وتصاعدت الأزمة لتصل إلى ما عُرف باسم ”حرب الــ 12 يومًا“، حيث ردت إيران بوابل من الصواريخ على إسرائيل وتبادل الطرفان الهجمات. في 22 يونيو، صعدت الولايات المتحدة من تدخلها بشكل كبير بشن ضربات على ثلاثة مواقع نووية إيرانية: فوردو ونتانز وأصفهان.

شملت العملية الأمريكية، التي أطلق عليها اسم ”عملية مطرقة منتصف الليل“، قاذفات شبح من طراز B-2 تحمل قنابل ”مخترقة للمخابئ“ (Massive Ordnance Penetrators) تزن 30 ألف رطل وصواريخ كروز توماهوك أطلقت من غواصات.
استهدفت الضربات العناصر الأكثر تحصينًا في البنية التحتية النووية الإيرانية، مع التركيز بشكل خاص على منشأة فوردو تحت الأرض التي بُنيت في أعماق الجبل.
الروايات المتضاربة
ادعاءات إدارة ترامب
أعلن الرئيس ترامب على الفور أن الضربات كانت ناجحة تمامًا، قائلاً إن المنشآت النووية الإيرانية ”دُمرت بالكامل“.
وكرر وزير الدفاع بيت هجسته هذه الادعاءات، مؤكدًا أن القدرات النووية الإيرانية ’دُمرت‘. وأصر البيت الأبيض على أن الضربات حققت ”تدميرًا كاملاً“ لقدرات إيران في مجال تخصيب اليورانيوم.
تقييم مخابرات البنتاغون
تناقض تقرير أولي سري صادر عن وكالة الاستخبارات الدفاعية (DIA) مع ادعاءات الإدارة، وخلص إلى أن الضربات لم تؤخر برنامج إيران النووي سوى ”بضعة أشهر“ وليس سنوات أو عقود.
وأشار التقييم، الذي تم الانتهاء منه في غضون 24 ساعة من الضربات ووصف بـ ”موثوقية منخفضة“، إلى أنه على الرغم من إغلاق أنفاق الدخول، فإن المنشآت تحت الأرض ظلت سليمة إلى حد كبير.
رد إيران
وصف المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي مزاعم ترامب بأنها ”مبالغ فيها“، مؤكداً أن الضربات الأمريكية ”لم تحدث أي أثر يذكر“ على المنشآت النووية الإيرانية.
وأكد المسؤولون الإيرانيون أن طموحاتهم النووية ستستمر وأن البلاد لن تتنازل عن حقها في الطاقة النووية.
انقسام أجهزة الاستخبارات
انقسمت أجهزة الاستخبارات نفسها، حيث صرح مدير وكالة الاستخبارات المركزية جون راتكليف في وقت لاحق أن ”معلومات استخباراتية موثوقة“ تشير إلى أن برنامج إيران النووي ”تضرر بشدة“ وسيستغرق ’سنوات‘ لإعادة بنائه.
كما زعمت مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد أن ”معلومات استخباراتية جديدة“ أكدت أن المنشآت ”دمرت“.

تحليل الأدلة المادية وتقييم الأضرار
تعرضت المنشآت الثلاث المستهدفة لأنواع ومستويات مختلفة من الأضرار، مما خلق صورة معقدة غذت الروايات المتضاربة.

منشأة فوردو
كانت منشأة تخصيب اليورانيوم تحت الأرض في فوردو، التي بُنيت في أعماق الجبل، الهدف الرئيسي.
وتؤكد تقارير استخباراتية أن أنفاق الدخول أُغلقت وأن أنظمة التهوية تضررت، لكن حجم الأضرار تحت الأرض لا يزال غير واضح. وأكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن المنشأة تعرضت لأضرار جسيمة، لكن لا يمكن تحديد حجمها الكامل بسبب طبيعتها تحت الأرض.
موقع نطنز
تعرضت منشأة نطنز لأضرار سطحية وأضرار في مداخل الأنفاق، لكن المعلومات الاستخباراتية تشير إلى أن العديد من أجهزة الطرد المركزي ظلت ”سليمة إلى حد كبير“.
وكانت هذه المنشأة قد تعرضت لأضرار في هجمات سابقة، مما يجعل من الصعب تقييم الأضرار الإضافية.
مجمع أصفهان
أفادت التقارير أن منشآت تحويل اليورانيوم في أصفهان ”دمرت بالكامل“ على مستوى السطح.
ومع ذلك، يُعتقد أن الأنفاق تحت الأرض في الموقع تحتوي على مخزون من اليورانيوم وربما بقيت سليمة.
اليورانيوم المفقود: مجهول مهم
أحد أهم الحقائق المثيرة للجدل يتعلق بمخزون إيران من اليورانيوم عالي التخصيب. قبل الضربات، كانت إيران تمتلك حوالي 408 كيلوغرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة نقاء 60٪، وهو قريب من المستويات الصالحة للاستخدام في الأسلحة.
تشير مصادر استخباراتية متعددة إلى أن هذه المواد نُقلت من المنشآت المستهدفة قبل وقوع الضربات.
تشير تقييمات الاستخبارات الأوروبية إلى أن مخزون إيران من اليورانيوم ”لا يزال سليماً إلى حد كبير“ وأنه ”تم توزيعه على مواقع أخرى مختلفة“ قبل الهجمات.
ومع ذلك، نفى البيت الأبيض هذه الادعاءات، حيث صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت أنه ”لا يوجد ما يشير“ إلى نقل اليورانيوم المخصب.
تسييس أجهزة الاستخبارات والرقابة على المعلومات
كشف هذا الجدل عن اتجاهات مقلقة في تسييس تقييمات الاستخبارات. وأطلق البنتاغون تحقيقًا جنائيًا في تسريب تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية، ووصفه وزير الدفاع هيغسيث بأنه محاولة ”لتشويه صورة الرئيس“.
وفتح مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) تحقيقا بشأن المسؤولين عن تسريب الوثيقة السرية إلى وسائل الإعلام.
وفي خطوة غير مسبوقة، أعلن البيت الأبيض أنه سيحد من تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أعضاء الكونغرس عقب التسريب، وبالتحديد سيقلل من المعلومات المنشورة على CAPNET، وهو النظام المستخدم لتبادل المواد السرية مع الكونغرس.
وأثار هذا القرار انتقادات شديدة من المشرعين الديمقراطيين، الذين اعتبروه محاولة لتجنب الرقابة.
وتأخرت عدة مرات إحاطات الكونغرس بشأن الضربات، حيث تم تأجيل إحاطة مجلس الشيوخ من الثلاثاء إلى الخميس، وأعيدت جدولة إحاطات مجلس النواب إلى الجمعة.
ووصف الديمقراطيون هذه التأخيرات بأنها دليل على أن الإدارة تحجب معلومات مهمة.
تقييمات دولية وخبراء
قدمت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي هيئة الأمم المتحدة للرقابة النووية، التقييم الخارجي الأكثر موثوقية. وقال المدير العام رافائيل غروسي إن الأضرار ”كبيرة جدًا جدًا جدًا“، لكنه لم يصل إلى حد إعلان القضاء على البرنامج.
وأكدت الوكالة وقوع أضرار جسيمة في المواقع الثلاثة، لكنها أشارت إلى أن إيران ربما نقلت مواد نووية إلى مواقع لم تكشف عنها.
قدم خبراء نوويون تقييمات متباينة. وخلص ديفيد أولبرايت من معهد العلوم والأمن الدولي إلى أن الهجمات ”دمرت فعليًا برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم بالطرد المركزي“، لكنه أشار إلى أن ”الأجزاء التي لم تدمر يمكن استخدامها في المستقبل“.
وأكد خبراء آخرون أن تقييم الأضرار النهائي لا يزال سابقًا لأوانه نظرًا لطبيعة المنشآت تحت الأرض.
المعلومات التي لا تزال مخفية
لا تزال عدة معلومات مهمة سرية أو موضع خلاف:
تقييمات الأضرار السرية
لم يُنشر تقرير وكالة الاستخبارات الدفاعية بالكامل، ولم يُسرب إلى وسائل الإعلام سوى تفاصيل مختارة.
ولا تزال الصورة الاستخباراتية الكاملة، بما في ذلك التقييمات الأكثر موثوقية، سرية.
حالة المنشآت تحت الأرض
لا يمكن تحديد الحجم الحقيقي للأضرار التي لحقت بقاعات التخصيب تحت الأرض في فوردو ومنشآت أخرى من الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية وحدها.
وتتطلب هذه المعلومات استخبارات أرضية أو عمليات تفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
موقع المواد النووية
لا يزال المراقبون الدوليون يجهلون مكان وجود مخزون إيران من اليورانيوم عالي التخصيب.
وربما يمثل هذا أهم ثغرة استخباراتية، حيث يمكن استخدام هذه المواد لإعادة تشكيل برنامج أسلحة بسرعة.
المنشآت النووية السرية
يعتقد مسؤولون أمريكيون أن إيران تحتفظ بمنشآت نووية سرية لم تستهدفها الضربات ولا تزال تعمل.
ويمثل موقع هذه المرافق وقدراتها فجوة استخباراتية كبيرة.
تقييم المصداقية
يتطلب تقييم الروايات المتضاربة فحص مصداقية ودوافع المصادر المختلفة:
الدوافع السياسية
لدى إدارة ترامب دوافع سياسية واضحة لتصوير الضربات على أنها ناجحة تمامًا، بالنظر إلى وعود الرئيس خلال حملته الانتخابية وتصريحاته العلنية.
ويشير توقيت التقييمات الاستخباراتية المتضاربة ورد فعل الإدارة إلى احتمال تسييس عملية الاستخبارات.
انقسامات مجتمع الاستخبارات
يشير الانقسام بين التقييم الأولي لوكالة الاستخبارات الدفاعية والتصريحات اللاحقة لقيادة وكالة الاستخبارات المركزية ومدير الاستخبارات الوطنية إلى وجود خلاف داخلي داخل مجتمع الاستخبارات..
ويقوض هذا الانقسام الثقة في أي تقييم فردي.
دوافع إيران
لدى إيران أسباب واضحة للتقليل من شأن الأضرار، مع الحاجة في الوقت نفسه إلى الاعتراف بتأثير كافٍ لتبرير إجراءاتها الانتقامية.
وينبغي النظر إلى التصريحات الإيرانية بتشكك، لكنها قد تحتوي على عناصر من الحقيقة.
التحقق المستقل
يحظى تقييم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأكبر قدر من المصداقية بصفتها منظمة دولية مستقلة، على الرغم من أن وصولها لا يزال محدودًا.
تشير تحليلات خبراء نوويين استنادًا إلى الأدلة المتاحة إلى أضرار كبيرة ولكنها ليست كاملة.
الآثار والاستنتاجات
تكشف الروايات المتضاربة حول الضربات النووية الإيرانية عن عدة تطورات مقلقة:
أولًا، إن التسييس الواضح لتقييمات الاستخبارات يقوض مصداقية وكالات الاستخبارات الأمريكية ويمكن أن يكون له عواقب طويلة الأمد على صنع القرار في مجال الأمن القومي.
ثانياً، يمثل تقييد تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الكونغرس تآكلاً مقلقاً للرقابة الديمقراطية.
تشير الأدلة المتاحة إلى أن الحقيقة تكمن في مكان ما بين ادعاءات الإدارة الأمريكية بـ ”الدمار الشامل“ وتأكيدات إيران بأن الأثر كان ضئيلاً.
من المرجح أن الضربات ألحقت أضراراً كبيرة بالبنية التحتية النووية الإيرانية، لكنها لم تقضِ على قدرتها على إعادة بناء البرنامج، لا سيما بالنظر إلى ما يبدو من الحفاظ على مخزونات اليورانيوم عالي التخصيب.
والأهم من ذلك، أن الجدل يسلط الضوء على التحديات التي تواجه إجراء رقابة فعالة والحفاظ على المساءلة العامة عندما تصبح المعلومات الاستخباراتية السرية سلاحًا سياسيًا بدلاً من أداة موضوعية لاتخاذ القرارات.
وقد تكون الآثار طويلة المدى على مصداقية الاستخبارات الأمريكية والحكم الديمقراطي في نهاية المطاف أكثر ضررًا من الآثار العسكرية المباشرة للضربات نفسها.
لا يمكن الإجابة بشكل قاطع على سؤال ”من نصدق“ نظراً للطبيعة السرية للكثير من الأدلة والدوافع السياسية الواضحة لمختلف الأطراف. ومع ذلك، فإن نمط التأخير في الإحاطات الإعلامية وتقييد تبادل المعلومات والتقييمات المتناقضة تشير إلى أن ادعاءات الإدارة بنجاح كامل هي على الأرجح مبالغ فيها، في حين أن الحجم الحقيقي للأضرار لا يزال غير مؤكد.
الورقة الكاملة الأصلية مع المصادر والمراجع هنا: